تحت رعاية كلاً من مؤسسة «كلام للبحوث والإعلام» ومؤسسة «جون تمبلتون» أُقيِمَت ورشة عمل بعنوان «الحواشي الرقمية» في (سيراكيوز) بنيويورك يوميّ الثالث والعشرين والرابع والعشرين من يناير 2016. وكجزء من مبادرة علم الكلام، تسعى «مؤسسة كلام للبحوث والإعلام» إلى تطوير بوابة إلكترونية على شبكة المعلومات الدولية. وستنطلق تلك البوابة في القريب العاجل تحت مسمى «الرواق». وأهم مافي تلك البوابة يتمثل في وضع منظومة رقمية للحواشي تهدف إلى تأسيس أرشيف إلكتروني لحفظ النصوص والحواشي التراثية التي ألفها العلماء على مدى حقبٍ تاريخية مختلفة وصولاً الى التاريخ المعاصر، وذلك بهدف إحياء دراسة نصوص كلامية هامة.
ومن خلال تلك المنصة الإلكترونية، سيتم تقديم «شرح العقائد النسفية لسعد الدين التفتازاني» مع الحواشي بصيغةٍ إلكترونية بما يُمكِّن الباحثين والدارسين ورواد الموقع من إجراء النقاشات حولها واضافة ملاحظاتهم. ومن المأمول أن تنشأ شروح معاصرة من خلال ذلك التفاعل، ثم ماتلبث أن تتوسع في المستقبل لتشمل نصوصاً أخرى في علم الكلام. ان مشروع «الحواشي الرقمية» يأتي ضمن العديد من المشاريع التي تنفذها «مؤسسة كلام للبحوث والإعلام» التي أخذت على عاتقها مهمة تجديد وإحياء علم الكلام.
وفي اطار سعيها نحو تطوير نظامٍ رائد للحواشي الرقمية، نظمت مؤسسة « كلام للبحوث والإعلام» حلقة عمل أُقيِمَت في (سيراكيوز) بنيويورك حضرها لفيف من الباحثين والعلماء. وقد ناقشت ورشة العمل مختلف الجوانب المتعلقة بإطلاق منصة الحواشي الرقمية؛ حيث ستعرض المنصة الإلكترونية نصوصاً في علم الكلام مع شروحها بما يُمكِّن رواد الموقع من قراءتها وإبداء ملاحظاتهم وتعليقاتهم عليها من خلال التفاعل الفردي والجماعي. وعلاوة على ماتقدم، جرت نقاشات بين المشاركين في ورشة العمل حول مواضيع مرتبطة بالنصوص الجوهرية للموقع؛ ونأمل أن تتواصل مثل هذه النقاشات التفاعلية على مدار العام من خلال الإستفادة من خاصية إبداء الملاحظات التوضيحية على الحواشي الرقمية بالموقع، على أن يتبع حلقة العمل هذه حلقات عمل أخرى في المستقبل المنظور.
في المرحلة الأولى سيعرض الموقع، من خلال منظومة «الحواشي الرقمية»، شروحاً للعالِم الشهير «سعد الدين التفتازاني» على متن العقائد النسفية. وبالإضافة إلى ذلك فقد تم الإنتهاء من تنضيد ثلاث حواشي رائعة واضافتها للموقع. وبذا يكون في مقدور القاريء والباحث الإطلاع على مقاطعٍ بعينها من نصوص «التفتازاني» متبوعةً بالحواشي. وبالإضافة إلى ذلك، سيتمكن القاريء من تصفح ثلاث حواشي رائعة وهي «حاشية الخيالي»، و«حاشية السيالكوتي»، و«حاشية ابراهيم الباجوري»؛ والأخيرة لم تشتهر ولم تُطبَع ولم تُنشَر حتى الآن.
ويتيح الموقع لزوارهِ امكانية التعليق، باختصارٍ أو بإسهاب، على فقراتٍ من النصوص؛ كما يمكن للمعلقين تلقي الردود الواردة من قراء آخرين على تعليقاتهم؛ وهذه الخاصية تُميِّز «الحواشي الرقمية» عن غيرها من النصوص الإلكترونية حيث أن النصوص عادةً تتيح فقط التعليقات والردود في أسفل الصفحة أو في إطار نقاشٍ جديد، أما في نظام الحواشي الرقمية فإنه توجد مساحة مرتبطة بالنص يمكن أن يعلق القارئ فيها. والمأمول أن تتحول منصة «الحواشي الرقمية» إلى مجتمعٍ بحثي يضم دارسي علم الكلام والباحثين والعلماء بما يثري النقاش في القضايا ذات الأهمية المعاصرة لعلم الكلام، وذلك باستخدام برمجيات متطورة تسمح بالمداخلات والتعليقات التفاعلية.
والفكرة من وراء هذا المشروع هو أن النصوص في الماضي، كنصوص «التفتازاني»، جعلت العلماء يتفاعلون من خلال تأليف الحواشي عليها، وكانت تتطلب جهداً ووقتاً للتمعن في معانيها ودلالاتها من قِبَل علماء آخرين علَّقوا بدورهم على تلك النصوص الرائعة. بيد أن التكنولوجيا الحديثة تتيح لنا اليوم إجراء مثل هذه النقاشات في وقتٍ قياسي، وذلك من خلال مساحات الهوامش الرقمية المتوفرة على الموقع الإلكتروني.
هذا وقد شارك في حلقة العمل المُشَار إليها كل من الشيخ (عمر قريشي) من جامعة «لويولا» بولاية (إلينويّ)، والدكتور (كارل شريف التوبجي) من جامعة «برانديز»، والدكتور (أحمد عبد المجيد) من جامعة «سيراكيوز»، والدكتور (آرون سبيفاك) من جامعة «كولجيت»، والسيد (باسم غميان) والسيد (سيف سنالدين)، بالإضافة إلى مشاركات عبر «سكايب» جرت عصر يوم السبت. وقد شهدت الجلسة اقبالاً من الحضور على تجربة الموقع، فشرعوا في الدخول في مناقشاتٍ حوله، كما تم استخدام خاصية التعليق كأداة تعليم من قِبَل المحاضرين الذي يُدرِّسون النصوص التراثية لمجموعة من الدارسين، وأعقب ذلك السماح للدارسين بإبداء ملاحظاتهم وتقديم أسئلتهم بالخصوص. ومن جانبهم، أعطى الأساتذة أجوبتهم الوافية على تلك الأسئلة بالإضافة إلى الإدلاء بتعليقاتهم القيّمة.
وبعد العرض التقديمي الذي قدمه الدكتور (آرون سبيفاك) عن الموقع وامكاناته، جرت جلسة نقاش بحثت في استخدامات الموقع وامكانيات توسيعه وتطويره. وأَدَارَ كلاً من الدكتور (كارل شريف التوبجي) والشيخ (عمر قريشي) جلسة نقاش دقيقة ومفصلة حول نظريات المعرفة المنافسة لعلم الكلام والحداثة في عصر ما بعد التنوير، وتطرق النقاش إلى ضرورة الإتجاه إلى الإستفادة بشكلٍ أكبر من العلوم المعاصرة وميتافيزيقيتها.
ومن خلال التركيز على باب «أسباب العلم» في نصوص «التفتازاني»، أجرى عدد من المشاركين في ورشة العمل مداخلات تمحورت حول الحاجة لتوضيح العلم اليقيني والظني في المحاورات مع العلمانيين والليبراليين ونظريات المعرفة في عصر مابعد التنوير. وقد نوقشت معضلة النظريات المتداولة التي تعطي نتائج صحيحة حتى لو كانت مقدماتها لا تخلو من ملاحظات حولها، أو مختلفًا عليها، كالنظريات المنافسة لقواعد اللغة العربية، وخصوصًا مشكلة العلموية في المجتمعات المسلمة. بعبارةٍ أخرى، فبعد تغلغل أفكار عصر مابعد التنوير في العقل والعلم التجريبي في المجتمعات المسلمة، قام عدد من المسلمين بجعل العلوم الغربية مقياساً للصحة والصدق على الرغم من امكانية وقوع الخطأ المؤدي إلى إدخال تعديلات على ادعاءات الحقائق خصوصاً في المجال النظري للعلوم. ومع التسليم بأن ثمة نظريات يشوبها الخلل قد نجحت في صنع محرك سيارة مثلاً، إلا أن هذا البعد البراغماتي الناجح للنظرية يمثل اشكاليةً عميقة عند اثبات عدم صحته في الواقع النظري؛ وبخاصة عندما يغير المرء قناعاته أو يتخلى عنها بسبب نظريات لم يتم اثباتها مع أنها ناجحة من الناحية العملية.
وتطرقت جلسات النقاش يوم الأحد إلى بحث القضايا المعرفية التي نوقشت يوم السبت وقُدِّمت بعض نصوص لـلتفتازاني تتلامس مع الفقه وبخاصة مفاهيم الأخلاق وعلاقتها بنطاق نظرية المعرفة عند «التفتازاني». ومن منظور «التفتازاني» أن أسباب العلم للخلق ثلاثة؛ وهي الحواس السليمة، والخبر الصادق، والعقل؛ والثلاثة أسباب تمثل طرق الوصول إلى العلم اليقيني، وقد أكد الدكتور (أحمد عبد المجيد) على محورية مقاربة الوصول إلى المعرفة، كما أكد على ضرورة تفنيد الهيرمينيوطيقا النسبية عند مفكري ما بعد الحداثة مثل (دريدا)، مع اختيار تفسير موثوق للنصوص كمصدر مطلق للأخلاق. كما انخرط المشاركون في مناقشة ونقد النسبية، وبحث ادعاءات أفكار ما بعد الحداثة لوضع موضوع الأخلاق بشكلٍ كامل في مجال العقل.
واختتمت ورشة العمل باتفاق المشاركين على ضرورة إكمال هذه المناقشات حول الجوانب التي تضمنتها نصوص «التفتازاني» في مجالين: المجال الأول يتمثل في العمل على اجراء المزيد من النقاشات الضرورية في المساحات المخصصة لذلك على موقع «الحواشي الرقمية»؛ بينما يتمثل المجال الثاني في العمل على نشر نتائج هذه النقاشات والحوارات في الموقع في صيغةٍ هرمية تقدم الأجوبة على الأسئلة الصعبة التي تواجهها المجتمعات المسلمة اليوم، ويمكن التعبير عنها وفهمها بوضوحٍ وسلاسة.
ولتحقيق هذا الهدف، عكف المشاركون على صياغة مقاربة لمعالجة هذه القضايا الملحة، والتي تبدأ بتحديد المسائل الأساسية والقضايا الهامة ذات الصلة بها. ويلي ذلك وضع هذه القضايا في سياقها التاريخي، سواء من داخل الخطاب الغربي فضلاً عن الخطاب الإسلامي من أجل استيعاب القضايا الملحة اليوم والتي كانت من المسائل البديهية في الماضي. وأخيراً، فإن الخطوة التالية، كما أكد الدكتور أحمد عبد المجيد، تكمن في الحاجة إلى اتباع نهج تأسيسي للمسألة بهدف وضع إطار منهجي سليم حتى لو جاءت الإجابات متعددة بسبب اختلاف التفسيرات والأحكام.
وقد عبر المشاركون عن اهتمامهم بمواصلة جهودهم الحثيثة باتجاه تحقيق الأهداف المًشَار إليها، وانتاج نسخ محققة من خلال التفاعل على شبكة المعلومات الدولية، وتحديداً في موقع «الحواشي الرقمية»، ومعالجة مسائل فلسفية وعقدية، جنباً إلى جنب مع الاستفادة من المصادر المتنوعة للموقع في تحديد الأسئلة التي نواجهها في عالم اليوم، ونضعها في سياقها الصحيح، ثم نجيب عنها. كما اتفق المشاركون على ضرورة تكرار اللقاءات على مدار السنة بعد التفاعل الكبير عبر الموقع الإلكتروني.